مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث هو مؤسسة بحثية يهدف إلى تحقيق مفهوم جديد للتربية؛ يتلاءم مع الانفجار المعرفي والثورة العلمية والتقنية التي نعيشها؛ للنهوض بالبحوث العملية والأساسية والتطبيقية بالتنسيق مع الجهات المختصة، وتدريب القدرات البحثية، وتقديم الاستشارات للمؤسسات والأفراد عن بعد؛ وللمركز في سبيل تحقيق أهدافه.
ثقافة البناء
أفكار ورؤى مؤسِسَة للنهوض
د. يحيى أحمد المرهبي
مقدمة المؤلف:
الحمد لله المستحق للحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، فهو كما أثنى على نفسه، جلَّ شأنه وتقدَّست أسماؤه، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير ورحمة الله للناس أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ... وبعد:
فإن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ لم يبدأ رسالته لرسوله صلى الله عليه وسلم بتشريعٍ عقابي، وإنما ببناء الإنسان وتربيته وتزكيته، فالساجد قبل المساجد، والوعي قبل السعي، والبدء بالمسجد بناءً وتوجُّهًا كان إشهارًا عامًّا داخل المدينة المنورة، وإعلامًا شاملًا لمن حولها أن هُويَّة الدولة الجديدة تبدأ بتسليم الوجهة لله، والاعتصام بوحدانيته التي ما جاءت الصلاة - التي هي مهمة المسجد الأولى - إلا تأكيدًا لها وتذكيرًا بها، فالقبلة واحدة، والأذان واحد، والإمام واحد، والصف واحدٌ متوحد، وهيئة الصلاة واحدة، وأركانها وفرائضها وسننها من لدن منهجٍ يعتمدُ على مصدرٍ واحد هو الوحي، وهكذا، كأنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤكد أن بَدْءَ حركة أي مجتمع إسلامي في تدبير نظامه ومعاشه لا بد أن تبدأ من أسسٍ تربوية سليمة، معتمدةً على طهارة الظاهر والباطن، ونقاء المقصد، وإخلاص النية، واستقامة الصراط، وحسن التقويم، وليس هناك أفضل من المسجد في تلقين هذه الأسس، وتعاهدها خمس مرات في اليوم والليلة، بالرعاية والتوبة والإصلاح والتقويم .
ولئن كانت الدول كالأفراد ـــــ كما يرى ابن خلدون ـــ تمرُّ بمراحل الشباب والشيخوخة والاندثار والموت، فإن (الأمم) لا تموت؛ لأن (الدولة) تجسيدٌ لروح الأمة، والجسد مجرد: صورة، شكل، طين، لكن الأمة: أصل، جوهر، روح، والأرواح لا تموت، والأمم لا تموت، خاصة تلك التي تتكئ على هرم التاريخ، وتبسط بنيانها في قلب الجغرافيا، وتعود إلى قيم روحية ضاربة في أعماق اللاوعي الجمعي لأفرادها، وَفْقَ تعبير د. محمد جميح.
ومولد الحضارة في أي مجتمع يبدأ بمولد الإنسان في ذلك المجتمع الذي تُخْلَق في أعماقه تلك الإيجابية التي تدفعه للبناء فتكون عندئذٍ الحضارة (عبد الغني عبود، الحضارة الإسلامية والحضارة المعاصرة)، وهذا لا يعني نوعًا من التنميط للبشر، أو إيجاد مجتمع من النماذج الواحدة المتكررة، وإنما -كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم -يُولَدُ مجتمعٌ كلُّ فردٍ فيه نسيجُ وحدِه، تنوعٌ في إطار منظومة واحدة، متناغمة متناسقة، رغم اختلاف أفرادها في القدرات والتوجهات والفعاليات.
والعلم هو وسيلة بناء الحضارات وازدهارها، وهو نفسه قد يكون سببًا في انهيارها وإبادتها، ومن هنا جاء الأمر الإلهي بالقراءة المقرونة باسم الرب الخالق، وليس بالقراءة المبتورة عن الخالق، قال تعالى:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))(العلق: 1)، فقراءة الكون واكتشاف أسراره وقوانينه يجب أن تكون في أحضان الإيمان بالرب الخالق، حتى إذا ما أحسن الإنسان قراءة الكون، وتعرَّف على قوانينه، فإنه يوظِّف هذه القوانين العلمية توظيفًا إيمانيًّا يسعد بها الإنسان ولا يشقى، فيكون العلم مصدر أمن وأمان للإنسان، وليس مصدر خوف وشقاء .
ومعاني الآيات القرآنية لن تُسفِرَ عن وجهها على الوجه الأكمل حتى تُقرأ في سياقها وبيئتها، وتُدرَك العلاقة بين الآية الواحدة والقرآن الكريم كله؛ لأن القرآن بناءٌ محكمٌ واحد، ونَظْمٌ متفردٌ واحد، تسري فيه روحٌ واحدة تحوِّلُه إلى كائن حيٍّ يخاطبك كفاحًا، ويشتبكُ معك في جدلٍ شامل يجيبُ به عن أسئلتك، كما أن موضوع القرآن مرتبطٌ أشدَّ الارتباط ببناء الإنسان، حيث إن وظيفة الإنسان، هي القيام بأعباء الاستخلاف والإعمار عن طريق العمل، وفقه قوانين التسخير التي وضعها الله في الكون، فالعلم هو الوسيلة الأولى لبناء الحضارات بناءً واقعيًّا في كل مجالٍ من مجالاتها، لذلك اشتغل به المسلمون، تعلمًا وتعليمًا، فتعلموا كلَّ صالحٍ مفيد، ونقلوا ما عندهم من دينٍ وعلومٍ ومعارفَ ومنجزاتٍ إلى الحضارات الأخرى.
إننا في أمس الحاجة إلى بناء إنسان التربية الإسلامية، إنسان غار حراء، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، الإنسان الرباني الذي لا يتاجر بدينه، ولا يتخذه سُلَّمًا لأطماعه، فيُحِلُّ به الحرام، ويُحرِّمُ به الحلال، ويوثِّق به الفاجر السفيه، ويشوه به العالم النزيه، وبناء الإنسان الرباني يحتاجُ إلى مؤسساتٍ تصنعُه وتُعِدُّه ليكون رائدًا لبني قومه، هذه المؤسسات والمحاضن التربوية هي مهمة الرواد في هذه الأمة، وبوجود هذه المؤسسات سنكون قد خطونا الخطوة الصحيحة في طريق بناء الإنسان الرباني، غير ذلك سيكون جهادنا في غير عدو، وستكون صيحاتنا في فلاة، ولن يسمعنا أحد .
لقد صنع باني الرجال صلى الله عليه وسلم في مؤسسته القرآنية الرائدة رجالًا ربانيين يُشار إليهم بالبنان، ربَّاهم على عينه، وصنع منهم نموذجًا للبناة الصادقين المخلصين، بل صنع من المعاقين رجالًا وأبطالًا، فهذا عبد الله بن أم مكتوم (الأعمى) - رضي الله عنه - (معاق)، ولكنه صنع ملحمةً عظيمة، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوليه المدينة عندما يخرج للغزو، وختم حياته مجاهدًا شهيدًا في ميدان الجهاد، وهذا عمرو بن الجموح (الأعرج) - رضي الله عنه - (معاق)، يتسابق مع ابنه لا في ميادين اللهو، بل في ميادين الكرامة، ويريد أن يطأ بعَرَجَتِه الجنة، وكان له ما أراد، وهذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (المعاق) كان سفيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وكان رائدًا في الفقه والعلم، وإدارة شؤون العباد والبلاد .. والمجال لا يتسع للتوسع في ذكر الأمثلة، فهي أكثر من أن تُحصَر.
إن بناء الرجال هو بالفعل مهنة الأنبياء ومَنْ جاء بعدهم من النبلاء، والعظمة والشموخ هو في بناء الرجال، وهي مهمة تحتاج إلى صدرٍ باتساع البحر، وعقليةٍ بعُلُوِّ السماء وارتفاعها، وقبل ذلك روحٌ دفَّاقة تحاكي منابع الأنهار على هذه الأرض الفسيحة.
وفكرة التقوى التي غرسها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سويداء قلوب أصحابه -رضوان الله عليهم -كانت حدًّا فارقًا بين البناء والهدم، إنها فكرة عميقة تترابط فيها أطراف القصة المتعلقة بمشروع الدين كل الدين، الذي يطوي تحت جناحه الدنيا والآخرة، وملخصها في إشاراتٍ ثلاث:
1-حركة عقلٍ توفر له منظومة قناعات.
2-وحركة قلبٍ تصله بالله عابدًا متبتلًا.
3-وحركة في الواقع جوهرها نفع الناس.
إن المعنى المختزن في هذه الإشارات الثلاث ثقيل الحُمولة، إنه بناءٌ لمنظومةٍ عقلية قلبية سلوكية كاملة، لكننا الآن نلاحظ أمرًا مختلفًا تمامًا، بل بعيدًا عن روح هذه الإشارات الثلاث، لقد حصل في محاضننا التربوية نوعٌ من الانفصال في تلقينا هذا الدين العظيم، حيث تلقينا العقيدة مفصولةً عن العبادة، وكلتاهما (العقيدة والعبادة) مفصولتان عن حركة الحياة ونفع الانسان، فالإنسان مسؤول عن مدى مساهمته في خدمة المجتمع والمحيط الانساني، والإنفاق بكل معانيه وجوانبه إحدى المسؤوليات التي كُلِّف بها الإنسان، وعلى ضوئها يبني الإنسان ذاته ليخرجها من الشحِّ، ويبني مجتمعه ليخرجه من حال الحاجة والفقر، (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: ٢١٩)، الإنفاق كعملية بناء ذات دلالات حضارية، ليس حركة إحسان طارئ لإراحة الضمير، بل هو بناء متكامل تستقيم فيه الحياة بالإنفاق
وإذا كانت عملية بناء جسر، أو عمارة، أو مستشفى، أو مصنع، أو مدرسة ... إلخ، مما تقوم به الهندسة المادية، فالإنسان نفسه منذ أن يخرج إلى الحياة يظلُّ في عملية بناء بشرى مستمرة، مما يسمح لنا بالقول بأن التعليم هو (هندسة بشرية)، وقديمًا أعلن أفلاطون من خلال لافتة على أكاديميته الفلسفية، ضرورة ألا يلتحق بها أحد، ما لم يسبق له دراسة الرياضيات، في إشارةٍ واضحة إلى أهمية تكوين العقلية الهندسية، التي تضع لكلِّ شيءٍ حسابه، وكلَّ أمرٍ في نصابه.
إن الخطاب التربوي التوجيهي إلى (الصغير) هو بالدرجة الأولى عملية تكوين وبناء نفسي أساسي، كما يشير إلى ذلك (د . عبد الحميد أبو سليمان، قضية المنهجية في الفكر الإسلامي)، أما الخطاب إلى (البالغ) فهو عملية وعظ وتوجيه ذهني وعقلي، وتأسيسًا على ذلك كان أسلوب الخطاب وتأثيره في بناء النفس في مراحل الطفولة، مرحلةً إثر مرحلة، وعامًا بعد عام، وطورًا بعد طور، من أهم الأمور التربوية التي يجب أن ندرك طبيعتها ومدى تأثيرها في بناء نفسية الطفل، وضرورة اختلاف صفات هذا الخطاب عن أسلوب خطاب البالغين ووعظهم وإرشادهم.
إن هؤلاء الصغار وأولئك الشباب بحاجةٍ إلى أن يُهتَم بهم، وأن يُعطَوا حقهم في بناء أنفسهم وبلادهم على أساسٍ من تعاليم كتاب ربهم وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ لأن المستقبل لهم، وعلينا إعدادهم لحياةٍ غير حياتنا، وزمانٍ غير زماننا، لا أن نفعل كما فعل ولاة التعليم في زمان الفيلسوف والشاعر محمد إقبال حيث قال عنهم: " إنهم يُرَبُّون فِراخَ الصقور تربيةَ بُغاث الطيور، وأشبال الأسود تربية الخراف "، وكما أن للنفوس أحلامها فإن للعقول أحلامها كذلك، والفرق البعيد بين أحلام العقول وأحلام النفوس هو أن الأولى لا يستطيع بناءها إلا كبار الفلاسفة والمفكرين، في حين أن الثانية جزءٌ من فطرة الإنسان، وأحلام العقل صادرة عن وَعْيٍ وتفكيرٍ ورَوِيَّةٍ وتدبير، أما أحلام النفس فأطيافٌ تتجسد في رموز، ومهمة التربية بناء عقلية الإنسان ونفسيته، لتتحول أحلام العقول والنفوس إلى واقع وحقائق، وقد كان ابن باديس - رحمه الله - يؤمن بأن بناء الإنسان أصعب، ولكنه أجدى للأمة من تأليف الكتب، وأن غرس الفكرة البناءة في صدر الإنسان إيقادٌ لشمعةٍ تنير الدجى للسالكين .
لهذا كله ولغيره أُطلِقَ على صناعة التعليم (الصناعة الاستراتيجية)، وعُدَّ التعليم من (الصناعات الثقيلة)، وذلك لما يقوم به التعليم، من دورٍ خطير في صياغة الأفراد، وتشكيلهم الثقافي والعلمي، والتأثير بعيد المدى، والوصول إلى النتائج غير المنظورة، حيث تُزرَع في محاضن التربية المختلفة بذورُ مستقبل حياة الإنسان العقلية والسلوكية، فإذا لم نحسن بناء المقدمات التي نملكها بشكلٍ سليم، فسوف ننتهي إلى النتائج التي تملكنا، ولا نمتلك إزاءها أي إمكانية للتغيير، وصناعة التعليم - كما أسلفنا - من الصناعات الثقيلة والأساسية والدقيقة والاستراتيجية في الوقت نفسه؛ لأن صناعة التعليم لا تتعامل مع جوامد كسائر الصناعات، وإنما موادها الأولية هـم البشر بكل مكوناتهم واستعداداتهم ومواريثهم وغرائزهم ودوافعهم وتطلعاتهم، وخضوعهم لشتى العوامل المؤثرة في بناء الفرد، فـ " التعليم صناعة، مدخلاتها ومخرجاتها من البشر ".
التعليم لا يصنع الآلة، وإنما يصنع النفس، ويُكوِّن العقل، ويمنح المهارة التي تصنع الآلة، يصنع القادة والزعماء والعلماء والآباء والأمهات والمبدعين والمفكرين، وبكلمةٍ مختصرة: التعليم يصنع الإنسان ويحضِّره للتعامل مع الحياة بشتى مجالاتها، " التعليم يتعامل مع أعقد المهمات وأخطرها وأبعدها أثرًا، لذلك فإن أيَّ خطأ أو خللٍ أو عجزٍ أو تقصيرٍ سوف تكون له نتائجه الممتدة والمتراكبة على المستويات كلها " (الأستاذ: عمر عبيد حسنة).
لهذا وجب علينا أثناء بناء الإنسان أن نعمل على تأسيس ثقافة جديدة يقوم عليها، وينطلق من خلالها، ثقافة الحياة لا ثقافة الموت، ثقافة الحوار لا ثقافة الأمر، ثقافة الفردية والجماعية لا ثقافة الفردية فقط، ثقافة المحبة والحب لا ثقافة الحقد والكره، ثقافة السماح والتسامح لا ثقافة الثأر والانتقام، ثقافة الانفتاح لا ثقافة الانغلاق، ثقافة قبول الآخر لا ثقافة إلغاء الآخرين، ثقافة البناء والإعمار لا ثقافة الهدم، ثقافة الأنا لتصبح (نحن) لا ثقافة الأنا والأنا فقط، ثقافة العلم والمعرفة لا الجهل والتخلف، هذا هو المناخ الملائم لصنع قيم جديدة على أسس الحق والخير والجمال، يقول أحد المثقفين: " إذا أردتَّ بناءَ مملكةٍ مستقرة فعليك حماية أعدائك فيها؛ لأن إسالة دمهم سيدفع العالم لهجرانك، والنظر إلى مدينتك كمحلٍّ مجهول لا يصلح لشيء " .
إنَّ لله ـــ سبحانه وتعالى ـــ قوانينه التي تحكم حركة الحياة في المجتمع، ومن شأن هذه القوانين أن تأخذ بهذه المجتمعات إلى مكان الريادة والصدارة، فتسود وتسود معها أخلاقياتها ومبادئها وعقائدها، وإذا كانت هذه المبادئ تعتمد في أسسها على عقائد صحيحة كان لها الخلود والدوام، وهذا ما تميزت به مبادئ الإسلام في تأسيس حضارته وبناء مجتمعاته، إنها سنة الحياة أن يكون فيها تنوع، وأن يكون فيها تغير، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بشكل واضح، ومن أجل ذلك نزل القرآن منجَّمًا، حسب الظروف والحوادث؛ لأنه كتاب بناء وتربية لا كتاب ثقافة ومتاع، جاء بمنهاج كامل للحياة والتربية، لصياغة نفوس، وبناء أمة، وإقامة مجتمع، إنه (أي القرآن) يسوق مع كل هزيمةٍ خبرة، ومع كل نصرٍ درسًا، ولكل موقفٍ تحليلًا، كما كان بناؤه مظهرًا رائعًا للخلود، مما جعله صالحًا للسير مع كل نفس، موجهًا لكل جيل، بانيًا لكل أمة؛ لتماثُل النفوس في كثيرٍ من خطوطها العامة، وتشابه الأحداث في الكثير من تفاصيلها، (محمد شديد، منهج القرآن في التربية) .
إن هدف الدين (الإسلام) كما يقول (برهان غليون) في كتابه (الدين والدولة) " هو بناء الجماعة الأهلية، أي بناء الإنسان فيما وراء الدولة وقبلها وأمامها وبعدها، ولا دولة من دون جماعة أهلية تصونها وتدرك أهميتها، ولا سياسة من دون دين يضبط خطوطها العريضة، أي من دون مستودع وخزان رئيسي للقيم الإنسانية والمثل والفضائل الأخلاقية، ولا يحسن بنا تبذير المكانة والقيمة والثروة الروحية التي تنبع من الدين، وليس لها حتى الآن - ولن يكون لها - مصدر آخر، في الممارسة السياسية والقانونية اليومية "، فها نحن وبعد عدة عقود من العيش في وهم البناء القومي، وبناء الدولة القومية الحديثة، وتحقيق الوحدة، لم يتحقق شيءٌ من ذلك، بل تحقق نقيضه، فالسيادة الوطنية تحولت إلى تبعية عالمية شاملة، والشرعية الداخلية تحولت إلى حكم القوة، والتنمية والتلاحم الداخلي تحولا إلى تنمية للتخلف والتفكك الاجتماعي، حيث تُعَدُّ عملية التحديث الجارية في عالمنا العربي (عملية تقليد للغرب) ليس إلا، من دون بناء للقوة الإبداعية من وجهة نظر (أنور عبد الملك، تنمية أم نهضة حضارية)، بمعنى أنها نوعٌ من النشاط الاقتصادي الطفيلي، لا يسعى لتنمية القوى الإنتاجية تنميةً استراتيجية، وإنما يضع العالم العربي في إطار التبعية في جميع المجالات وعلى جميع المستويات .
وبناء المؤسسات التي تبني الإنسان أمرٌ يحتاجُ أن نُولِيَهُ أهميةً كبيرة، وأن نجمع في إقامة هذه المؤسسات بين الشكل والمضمون، فقيام المؤسسة - أي مؤسسة - وأداؤها لوظيفتها دون وجود قيمة أو مثالية (مضمون) تكمن خلف البناء والوظيفة، وتعمل على توجيهها الوجهة السليمة، لا يعني سوى شكلٍ للبناء مُفرَّغٍ من المضمون، لن يحقق غايات المجتمع، فالأهم من ذلك هو القيمة التي تكمن خلف المؤسسة والوظيفة التي تؤديها، حيث إن الاقتصار على المؤسسة فحسب (شكلًا) قد لا يعني سوى بئرٍ معطلة وقصرٍ مشيد، أي بناء بلا وظيفة، أو وظيفة دون مضمون، وهذا هو شأن الجماعات الجهادية التي صنعت تنظيمات ترفض الاستبداد المعاصر، لكنها تسعى إلى بناء استبدادٍ قديم، وكأن المستبد اليوم إذا نزع الخوذة وارتدى العمامة أصبح حاكمًا شرعيًّا وخليفةً راشدًا !!
إن عملية البناء الإنساني المنشود هي التحدي الحضاري الذي له ما بعده، ولهذا كانت عملية بناء الإنسان من الصعوبة بمكان، وكان إنجازها في ظل عوامل الهدم الكثيرة تشبه العمل الخارق، فعوامل الهدم المتعددة في عالم اليوم لم تدع للبُناة أن يلتقطوا أنفاسهم، فهي تقوِّض كلَّ أبنيتهم، وتنقُضُ كلَّ بنيانهم، وإذا أدركنا أن البُناةَ في المجتمعات قليلون مقارنةً بمن يحملون معاول الهدم أدركنا من خلال ذلك المهمة الصعبة التي تواجه مَنْ يحملون لبنات البناء، وهم من عَنَاهم الشاعر بقوله، وإن كنا لا نقرُّ تشاؤمه وإحباطه، حيث يقول:
متى يبلُغُ البُنيانُ يومًا تمامَهُ إذا كنتَ تبنيهِ وغيرُكَ يَهْدِمُ
فلو ألفُ بانٍ خَلْفَهم هادمٌ كفى فكيف ببانٍ خَلْفَهُ ألفُ هادمِ
أترككم أيها القراء الأفاضل مع عناوين الكتاب التي حاولت -قدر استطاعتي -أن أجعل منها عناوين مُعبِّرة عن ثقافة البناء التي نحتاجها في البناء في أيِّ موقعٍ من مواقع المجتمع، ومن أيِّ إنسانٍ كائنًا ما كان تخصصه أو مركزه، معتبرًا هذا الكتاب (ثقافة البناء) لبنةً في التأسيس، إضافةً إلى أخويه السابقين (على بصيرة .. تأملات في الدين والحياة)، و(قد أفلح مَنْ زكاها)، سائلًا الله -جلَّ في علاه -أن يكتب لهذا العمل القبول، وأن يجد له في دروب حياتنا الفردية والجماعية مكانًا وفعلًا، وأن يجعله في ميزان الحسنات، وأن ينفعنا به يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.